كميلة
قصة قصيرة علي حداد
الكلمة : هو الحب وحده..ذلك الذي يجعل الواحد منا ...يمتلك الكون بأسره
الاهداء: إلى الفنان مكي البدري المحروم من حارسه الشخصي ...والفنانة غزوة الخالدي وخالد ناجي و وحيدة خليل
كميلة أمراة جميلة تبهر العيون ..شقراء حمراء..بعباءة سوداء نظيفة كانت حين تمشي في بغداد محلة أبو سيفين تقوم الدنيا ولاتقعد ..جسدها يتكلم ..مشيتها تحكي وكذلك شعرها يؤشر ويوميء وهو لايتوقف عن ذلك ..وشفتيها لاتنفك وهي تحكي قصصا وردية جميلة ..كميلة وحين تتحدث اليك بشفتين راقصتين تنسى نفسك وتصيرمثل أثول مثبور ..تتيه بين حركة شفتيها ومعنى الكلمات ونغمات صوتها الحلوة كأنما يخيل اليك انها تغني ..او تغرد ..كميلة لاتفتعل ذلك .. كميلة هكذا خلقها الله سبحانه وتعالى.. مشيتها ضحكتها.. حركة يديها وشفتيها ..والتفاتاتها ..وحين تتوقف في السوق .. كأنما تتوقف الحياة.. هي لاتقلد ألمغنية أحلام وهبي ولاهند رستم ولا مارلين مونرو .. هي ولدت هكذا ..تمشي هكذا ..وتضحك هكذا .. وتتحدث هكذا ..وتلبس هكذا لاعلاقة لها بأزياء شانيل .. أو بيار كاردان .. كميلة بعينيها السوداوين بلون الفحم .. وشعرها الاشقر بلون الذهب ووجهها المضيء مثل ليلة مضيئة بقمر ..كانت مشرقة تسر الناظرين ..تشرق من جسدها أشراقات لايعرفها أهالي محلة أبو سيفين أبدا ..ولا نحن الصبية الذين لانرفض لها طلبا حتى لو كان في عكة أو مكة .. وكنا نطلق عليها < الشكرة > ونساء أبو سيفين كن يستشطن غضبا منها وأمي حين كانت تتشاجر مع أبي كانت تولول قائلة
- < عينك علشكرة أبو كرون >
وكنت أسمع صديقات أمي وهن يتقولن عليها
- < هاي الشكرة عوع تلعب ألف نفس ..جامدة عبالك لعابة بلاستك >
ذلك أنهن كن يفشلن في كل مرة ان يقلدن شيئا مما حباها الله عزه وجل ..كميلة تزوجت من عادل بن الحجي وكان رجلا ثرثارا .. لايحبه أحد لثرثرته وتعاطيه للغو في الكلام ..رجل لايعرف ان يسكت.. وهو حين يتحدث لايعطيك فسحة لمقاطعته ..ولبخله كان يحاسبها على الفلس ..وكان يضع لها منظف الملابس في قدح صغير ..ويضع لها صابونة واحدة ..ويعد عليها البستها الداخلية.. ومتى تبلى وتستبدل وكمية الحليب الذي تشربه ..وكيفية أستهلاكه.. ويعد عليها ملاعق الرز ..عليها وعلى أطفالها الثلاث ..وقد وضع قفل على ثلاجته لايفتحه الا حينما يعود من عمله < كصباغ للبيوت > يعد عليهم البرتقالة والتفاحة وحبات العنب ..ومدى استهلاكها للدهن الذي وضعه في استكان الشاي ..
لم يكن ينظر الى حجية كميلة وأنحنأأت جسدها وألتواأته ولوعته وتكوراته ..وجمال حديثها وضحكتها ومشيتها في البيت ..أبن الحجي كان يتمتع كل ليلة بعد دنانيره..وهو مبتهج سعيد ..فلا علاقة لأبن الحجي بجسدها ونعومته ونضجه وفتوته واستجابته ..الدينار أحلى عنده من أفخاذها ..والدرهم أجمل من ثدييها ..والفلس أجمل من عذوبة شفتيها ..
وفي تموز من العام 1967 ..جاءت الى محل والدي لتشتري < طرمبة > حنفية ماء .. حينها رأت فلاح أبو سمرة ..كان رجلا طويل القامة عيناه ايضا بلون الفحم ..مكحلتان منذ الولادة ..وبأسنان بيض تلمع مثل لؤلؤ ساطع..وسيكارة < الروثمن كانت تستقر بين اصبعيه > وكان قليل الكلام ان لم يكن ممتنعا عنه ..لم أره الا والسيكارة في يده اليمنى ..يدخن بنشوة ..وكأنها فقط من تستطيع أدراكه
أنا كنت الشاهد الوحيد في لقاء الحجية كميلة بفلاح أبو سمرة ..لم اكن افهم في الدين ومعنى الحجيج الى بيت الله الحرام ..كنت أفهم ماكنت اتلقاه في مدرستي <بسم الله الرحمن الرحيم قل هو الله احد ....بعد أعوام فهمت كل ذلك.. فهمت معنى ان تكون كميلة حجية وأم لثلاثة أولاد .. ومعنى الحب والعشق .. والبخل وكل هذه المفاهيم .. كنت أشاهد عشقهما.. وأسمع همساتهما ..وقبلاتهما من وراء حجاب..وافهمها على أعتبارات جنسية و.. وكنت قد كبرت حين سمعته يقول لها بحزن واسى كانا يتطافران من عينيه المكحلتين وقد أطفأ سيكارته بغضب بان عليه وهو يسحقها بكعب حذائه الاسود الانيق
- يجب ان نفترق ..كميلة لأني نويت ان أحج ..ولا يجوز ..
بكت من فورها وهي تصارع كلماتها
- كنت حجية ..أبو سمرة .. كنت حجية قبلك ...وانت تعرف ذلك تماما
لم يجبها بشيء ..ذهب يدخن كانت مسكته لسيكارة الروثمن رائعة .. وكميلة كانت أمامه تتبعثر مثل دخانه الذي ما يلبث أن يختفي كما أختفى هو عن الانظار..
ظلت تسأل عنه بعناد وكانت تأتي الى أبي ولاتمل من السؤال عن أبو سمرة
- أسمعي حجية كميلة ..أنا لم أكن صديقه بالمعنى الصحيح كان شقيقه < صباح الخبل > صديقي فعلا لكن ذات يوم ممطر قالت زوجتي وهي مذعورة
- من يطرق الباب علينا في هذه الساعة ؟
وكانت الظلمة شديدة حتى انني لم استطع رؤية كفي وتفاجأة بفلاح ابو سمرة وهو يوميء لي بأشارة من رأسه مع ابتسامة صغيرة .. كان مبللا يقطر الماء من شعره وملابسه وقد تبللت سيكارته ايضا
- دعنا ندخن
- نعم ؟؟
- ذهبت معه الى مقهى ابو أسماعين ودخنا سوية ثلاث سكائر ثم ذهب كل منا الى بيته هذا كل مافي الامر يا حجية اقسم بالله وهكذا صار يأت للجلوس في دكاني يشرب الشاي أو القهوة ثم يغادرني دون ان ينبس ببنت شفة
- ألم يتحث لك بشيء عني ؟
- لا ابدا ..بل لم يتحدث بالمرة ...وحتى عندما كانت السماء تمطر ويدق الباب على و..وهكذا نذهب الى مقهى ابي اسماعين وندخن لم يكن يتحدث لاعنك ولا عن غيرك ابو سمرة ك
قاطعته بلهفة كمن تستجير
- معقولة .. ولا كلمة ؟؟
كان أبي قد نهض من وراء منضدته ..كأنما خشي أن ينقل خبر هذا اللقاء الى أمي
- أقسم لك بكل حرف < بالقرعان > .
ثم سمعنا أنه ذهب الى بنجوين في شمال العراق كضابط شرطة ..كما سمعنا أن حجية كميلة ذهبت الى هناك ..كانت تريد ان تعرف عنه كل شيء ..عن صمته ..وشروده الطويل..وتدخينه ..لعلبه السبع من سكائر الروثمن ..وأخيرا عثرت على صديقه المختار كاكة توفيق ..وكان رجلا طاعن في السن يبلغ التسعين من عمره استخدم العكازة الاولى وهو في السابعة والسبعون من عمره وبعد ثلاث عشرة عام استعان بعكازته الثانية.. محدودب الظهر وبوجه مريح وكان حين يمشي يبدو كحيوان من الزواحف المنقرضة وكان يتحدث بصعوبة بالغة
- كاكة كميلة كاكة فلاح < خوش آدمية بس دنيا مطر دك باب علينه
كاكه توفيق تعال دخن ..تلات جكارات روثمن ..مطر آني رجال جبير كاكة كميلة
عادت الى بغداد منهكة متعبة ..رأت الثلاجة المقفلة وأستكان الشاي المملؤ بغسيل الملابس ..وقدح السكر والملح < وأشياف > البرتقال المقسمة لها ولأولادها..
وحين دخلت الى غرفة نومها وجدته يعد دنانيره فرحا وهو يتسأل
- أين كنت ؟
- في الحمام
ذات شتاء .. وفي يوم الخميس ..الذي كان ممطرا دق جرس الباب بعنف وسألها مذعورا ينظر الى المطر وهو يضرب على النوافذ والحيطان
- كميلة من يطرق علينا الباب في هذه الساعة ؟
تمنت أن يكون أبو سمرة ..وهو يطلب منها ان تدخن معه سجائره الروثمن الثلاث
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق