الخميس، 11 ديسمبر 2025

جهل الراعي _بقلم الأديبة السورية/ابتسام نصر الصالح

قصة قصيرة 

بعنوان: ( جهل الراعي) 

استيقظت شمس هذا اليوم كالعادة قبل انبثاق الفجر من معطف الظلام؛ وبدأت بترتيب مايلزم لتأخذه  ليومها المدرسي في حقيبتها اليدوية. ثم اتجهت إلى خزانة الملابس فاختارت ما سترتديه ورتبته على كرسي، أخرجت حذاءها، مسحته بقطعة قماش بللتها بقليل من الماء ثم تركته يجف بجانب الكرسي، رتبت سريرها، سرحت شعرها ورفعته ذيل حصان. 

جاءها صوت أمها:" تعالي الفطور جاهز" 

خرجت من غرفتها واعتذرت قائلة:"  تسلم يديك يا أمي ولكني لا أستطيع تناول الفطور في هذا الوقت المبكر" 

أصرت أمها:" هيا تعالي؛  كلي ولو لقمة." 

لبت أمها وجلستا إلى المائدة. أكلت شمس عدة لقمات وشربت كأس شاي صغيرة ثم قالت:" دايمة أمي؛ يسلموا يداك" 

أجابتها :" صحة وهنا يا حبيبتي" 

نظرت إلى ساعة الحائط قائلة:" حان الوقت لأحضر نفسي للذهاب إلى القرية."

قالت أمها:" هيا يابنتي"

عادت الى غرفتها:" ارتدت ملابسها . سمعت طرقات  على الباب. فتحته قائلة:" تفضلي أمي." ناولتها أمها صينية عليها ركوة قهوة وفنجان وتفاحه؛ قائلة:" يا شمس أنت لم تفطرين جيدا؛ على الأقل كلي تفاحة واشربي قهوتك. لا تخافي لن تتأخري ما زال معك وقت كاف."شكرت أمها وفعلت ما طلبته منها. شعرت مع كل رشفة قهوة وقضمة تفاحة بلذة منعشة.

 تابعت ترتيب نفسها وانتعلت حذاءها، حملت حقيبتها، وخرجت من غرفتها. ودعت أمها وخرجت من البيت. توجهت صوب موقف الحافلات. انتظرت وصول حافلة متجهة إلى كراج القرى فاستقتلها.

وصلت الحافلة إلى الكراج فنزلت شمس لتبحث عن حافلة القرية حيث تعمل بتدريس طلاب الثانوية. وجدتها، فاستقلتها وأخذت مقعدها وأخذت تراقب ساعة يدها. حتى اكتظت الحافلة بالركاب وانطلقت.

انشغلت شمس بمراقبة الطريق الطويلة الممتدة من المدينة إلى الريف ثم إلى القرى النائية واستمتعت بمشهد القرى المتلاحقة بكل تفاصيلها.

رغم أنها التفاصيل ذاتها تراها كل يوم ولكن بعين جديدة؛ عين قلبها. تبحث عن مشهد جديد لم تنتبه له من قبل. 

ومع كل نسمة هواء تهب عليها من النافذة، كانت تصنع في مخيلتها حوارا جديدا مع شخصيات كانت تختزنها في عمق ذاكرتها، تستعيدها مع كلمات الاغاني التي يبثها مذياع السائق فلا تشعر بمسافة الطريق.

انتزعها من عالم الخيال حوار بين الركاب من أهل القرية يدور حول شؤونهم الزراعية، وعن انتظارهم للموسم من اجل تزويج ابنائهم، وحكاية طريفة تسمعها عن عرس سيقام في عطلة هذا الأسبوع لشاب من القرية، التقى بفتاة أحلامه مصادفة؛ حين لبى دعوة صديقه من القرية المجاورة لحضور حفل زفافه...... وتوقفت الحكاية مع صوت السائق الذي أعلن:" وصلنا المفرق من يريد النزول هنا." نهضت شمس ثم عادت للجلوس في مقعدها قائلة:" هل ستتابع إلى المدرسة؛ من فضلك؟" 

أجابها لا. أنا أتابع إلى القرية المجاورة."

 نهضت ونزلت من الحافلة. أكملت طريقها إلى مدرستها سيرا على الأقدام. هنا طفل صغير يخرج من البيت وفي يده رغيف خبز وقدماه حافيتان تلحق به أمه تحمله وتحضنه، تقبله، وتدخل إلى بيتها مبتسمة. وهناك امرأة مسنة تكنس عتبة بيتها الخارجية والرصيف على جانبي الباب. فلاحون يحملون معاولهم متوجهين إلى بساتينهم وحقولهم. تلاميذ يتابعون خطاهم على طريق المدرسة. طالبة من طالباتها تصادفها تلقي تحية الصباح عليها وتستأذنها أن تلحق برفيقاتها حتى لا تتأخر عن الاجتماع الصباحي. 

تكمل طريقها. تصادف زميلة لها من بنات القرية ترافقها الطريق وتستمتعان بحديث وأمنيات بيوم جميل . تصلان. تمضي يوما مدرسيا مفعما بالنشاط. تنهي دوامها. تخرج من المدرسة وكالعادة تعود أدراجها على المسار ذاته. لكن انتظارها يطول على مفرق القرية حتى يصادف أن تمر حافلة ركاب قادمة من مدينة اخرى؛ لأن حافلة القرية تنتهي رحلاتها الى المدينه في الواحدة بعد منتصف النهار. تصل حافلة تلوح لها بيدها فتتوقف. تصعد فلا تجد مقعدا خاليا. يتبرع لها شاب بمقعده. تجلس شاكرة إياه. تتابع الحافلة طريقها. تتوقف في منطقة قريبة من كراج مدينتها. تنزل شمس وتتابع الطريق سيرا على الأقدام لتصل إليه. تبحث عن حافلة توصلها إلى حييها. تصل إلى بيتها. تجد أمها بانتظارها. تقول لها:" هناك ماء ساخن؛ بينما تعملي دوش أكون قد سخنت الغداء. " تتناولان الطعام معا. تدخل غرفتها؛ ترمي نفسها على فراشها وكأنها تتنازل له عن كل إرهاقها وتغرق في النوم. تستيقظ على صوت طرقات أمها على الباب:" تنهض قائلة تفضلي أمي؛ أنا استيقظت." وتفتح الباب. تقول لها أمها:" تعالي يا شمس لقد حضرت الشاي" تخرج وتلتحق بها. تشرب الشاي مستمتعة به وهي تحكي لأمها ما عانته خلال نهارها.

  ثم تعود إلى غرفتها تخرج كتب المنهاج الذي تدرسه وتفرد دفتر التحضير وتبدأ بقراءة الدروس وكتابة الملاحظات والخطة الدرسية لليوم القادم. وتخرج أوراق المذاكرة وتبدأ بتصحيحها. تدون درجات الطلاب مع الأسماء على دفتر صغير خاص بها. حين تنتهي من كل ذلك. تشعر شمس براحة وسعادة قائلة لنفسها:" الآن أصبح كل شيء جاهزا ليوم مدرسي جديد. وما تبقى من وقت سيكون لي ولأمي سأحضر نفسي لأذهب معها  مشوارا جميلا " ترتدي ملابس جميلة وتضع مكياجا خفيفا مناسبا. تسرح شعرها بما يتناسب مع ملابسها وتخرج حذاءا مناسبا. تحضر حقيبة يدوية صغيرة توائم بلونها ملابسها .تضع الحقيبة على السرير وتترك الحذاء بجانب الكرسي. تخرج من غرفتها إلى غرفة العائلة، تقول متلهفة:" أمي ما رأيك بهندامي؟" تجيبها ممازحة:" جميل جدا؛ هي جهل الراعي؛ وصلنا له يا شمس." تجلس بجانب أمها وقد أصابها بعض الإحباط دون أن تدرك معنى كلامها. ولكنها اليوم للمرة الأولى تسألها:" أمي دائما تقولين لي ( هي جهل الراعي ) حين أسألك عن هندامي وبعدها أطلب أن نخرج لنعمل مشوارا معا فتقولين انظري إلى الساعة وحين أنظر أجد اننا قد صرنا في وقت متأخر من الليل وغير مناسب للخروج من البيت. وأنا اليوم أريدك أن تحكي لي قصة (جهل الراعي) التي لم أفهم علاقتها بهندامي. " 

تضحك أمها قائلة؛" لو سألتني من قبل كنت حكيت لك ولكني انتظرت سؤالك حتى يكون لك لهفة. 

والآن اسمعي يا شمس الحكاية:

( منذ قديم الزمان كانت القرية تعتمد على راع شاب يقوم بجمع أغنام جميع العائلات ليصبح قطيعا واحدا يأخذه إلى البراري البعيدة عن القرية وعن الأراضي المزروعة ليرعى من نباتات البرية البعلية. فيمضي منذ شروق أول نور للشمس إلى التلال والوديان.  الراعي يأكل من زوادة يحملها حماره على ظهره في جيبي خرج  من الخيش. ويشرب من جرة فخارية صغيرة مرافقة لزوادته دائما. يجمع نباتات وأعشاب منها ما يصلح أن يكون طعاما لذيذا حين يطهى ومنها ما يصلح أن يؤكل نيئا في طبق سلطة خضراء ومنها ما يصلح أن يكون مشروبا ساخنا فيشفي من أمراض الشتاء والبرد. يضع النباتات في الخرج ليأخذها معه هدية لعائلته. في المرعى؛  ينتبه لأي نعجة مريضة فيضعها قريبا منه ليعتني بها ويحملها على ظهر حماره حين عودته الى القرية. واذا أنجبت  إحدى النعجات يوليها اهتمامه ومولودها. ويهتم بكلبه وحماره. يمضي يومه وحيدا مع القطيع ولا يؤنس وحدته سوى أغنيات يحفظها عن ظهر قلب يرددها وناي صنعها من القصب ينفخ فيها لواعج قلبه فتصدر لحنا شجيا يتصاعد صوب السماء. 

ولا يعود إلى القرية إلا قبل غروب الشمس بساعة واحدة. حين يصل والقطيع إلى القرية تنصرف الاغنام كل إلى دار صاحبه. وترافقه أغنامه.  يصل مرهقا، يستحم ويتناول طعام العشاء مع والدته وأخوته، ومن شدة التعب يتمدد ليرتاح فإذا به يغفو.

 يستيقظ؛ فيشعر بالنشاط؛ يبدل ملابسه، يرتدي أجمل ماعنده ويمشط شعره، يضع منديله النظيف على رأسه ويقول لأمه:" أمي أنا ذاهب لأسهر مع الشباب" تجيبه أمه:" حقك يابني؛ اذهب واسهر مع رفاقك. لكن اخاك قد سبقك وعاد من السهرة وهو نائم الآن. اذهب يا بني  وأتمنى أن تجد أحدا مازال مستيقظا من أهل القرية ليستقبلك." يجيبها:" سأرى أنا وحظي يا أمي؛ من أجده مستيقظا من رفاقي أسهر عنده."

 ينطلق فيجوب القرية وهو يحمل معه قنديلا يضيء له دربه، فلا يجد أي بيت من بيوت القرية مضاء، فيعرف أنهم نيام.  يستدير صوب بيته ويعود ليقول لأمه:" ليس لي نصيب بالسهرة اليوم. غدا سأسهر أكيد." 

وهكذا تمر أيامه.

 وحين يتأنق شاب من القرية في آخر الليل تقول له عائلته: " هي جهل الراعي" وهكذا صار الراعي مضرب مثل.

يعني هذه أناقة الراعي، من سيراك يامسكين!!!).


*** تنويه للأمانة : (جهل الراعي ) مثل قديم يتداوله القرويون عن الأجداد في سورية. وأنا سمعت حكايته من أمي رحمها الله وقد بنيت قصتي على ماروته لي.

 بقلم: ابتسام نصر الصالح 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

خطوط الرموش _بقلم الشاعرة السورية /سعاد حبيب مراد

خطوط الرموش  إن تقفعت يداي سأرسم  بهدب العين حروفي  وحروفي لا ترسم رسما ً بل تكتب بإحساسي  حروف تُسَطر وتكتب  بهدب العيون ودموعها  شفافية ال...